سياسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

مصالحات بطعم الدم

 

بعد مرور سنوات عديدة على ثورة الشام المباركة وتقلباتها كان النظام التركي يظهر للعامة أن قطيعة حادة بينه وبين النظام السوري، وكان يصفه بالمجرم ومرتكب المجازر، وكان يظهر بأنه يقف إلى جانب الشعب السوري، وهذا ما برز في عدد كبير من تصريحات مسؤوليه، وخاصة تصريح وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، خلال لقائه بالإعلاميين العرب في 2019/7/13 حين قال "تركيا لم تتخل عن روح الأنصار والمهاجرين في استضافة اللاجئين السوريين".

 

ولكن منذ فترة برزت عدد من التصريحات للمسؤولين الأتراك تدعو إلى التفاوض مع النظام السوري، وضرورة التوصل إلى حل سياسي ينهي الاشتباك ويعود بحال سوريا إلى نقطة البدء.

 

واليوم نحن على أعتاب لقاء رؤساء روسيا وتركيا وسوريا، متجاهلين ومتناسين كل ما فعله هذا المجرم، ومتغافلين عن كل تصريح أو فعل كان ظاهره ضده. ولكن ما الذي تغير ليحدث هذا التغيير؟ وما هي حقيقة هذه المصالحة؟ هل هي لخدمة مصالح شخصية لحكام تلك الدول؟ أم هي مصالح إقليمية؟ أم هي تمهيد للحل السياسي الذي يوجب بداية تقارب وعلاقات مفتوحة؟ أم هي أوامر واجبة التنفيذ؟

 

وحتى نفهم الواقع بشكل أوضح سنتطرق لدور كل المكونات الفاعلة في الملف السوري، وما هي مصالح كل واحد منها:

 

روسيا: بدأ سلاح الجو الروسي بقصف الأراضي السورية بتاريخ 30 أيلول/سبتمبر 2015، وطبعا بطلب من الرئيس السوري بشار الأسد من أجل كبح القوات المعارضة له في الحرب. (بي بي سي عربي 2015/10/1)

 

إلا أن رئيس الائتلاف الوطني السوري المعارض خالد خوجة صرح آنذاك بأن الغارات قتلت مدنيين في مناطق ليست تابعة لتنظيم الدولة، كما شكك القادة الغربيون في الغارات، وبعدها أصبح على روسيا توضيح أهدافها قبل الضرب في التاريخ نفسه.

 

وقد صرح الرئيس الروسي أن هناك الآلاف من المنضمين للتنظيمات الإرهابية من مواطني الدول الأوروبية وروسيا ودول الاتحاد السوفياتي سابقا، مشيرا أن المرء ليس بحاجة لأن يكون خبيرا في الشؤون الأمنية، ليعلم أنه إذا انتصر هؤلاء في سوريا فسيعودون إلى بلادهم ويعودون إلى روسيا أيضا. (قناة روسيا 2015/9/30)

 

وبذلك تكون روسيا دخلت إلى سوريا بطلب شرعي دولياً، وأيضا فإن أمريكا على علم بذلك وموافقة مسبقة بغض النظر عن الصفقة المبرمة بين روسيا وأمريكا، حتى قبلت دولة مثل روسيا أن تأخذ دور القاتل المأجور، مع أنه قد يعرّضها ذلك إلى المساءلة القانونية دوليا، وخاصة أنها أدينت وفقا لمنظمة العفو الدولية في أواخر شباط 2016. "استهدفت الطائرات الحربية الروسية عمدا المدنيين وعمال الإنقاذ أثناء حملة القصف" (شباط/فبراير 2016 مؤرشف من الأصلي في 2022/09/23م)

 

وجميع منظمات حقوق الإنسان وجهت بالأدلة أن روسيا لها يد بالمجازر التي وقعت على الشعب السوري، وليس فقط قصف التنظيمات.

 

إذاً روسيا متورطة في المستنقع السوري، وتريد الفكاك منه بعد إتمام ما طلب منها، ناهيك عن واقعها الغارق في حربها على أوكرانيا، والتي حققت منها ما كان يهم المصالح الروسية، وهي شبه جزيرة القرم، ولوغانسك، ودونيتسك، وزاباروجيا وخيرسون. (الجزيرة 2022/10/20)

 

وبهذا فإن المطلب الروسي حاليا وفق مصالحهم هو الخروج العسكري من سوريا مع بقاء قوات محددة لحفظ الأمن إذا أجبرت على ذلك.

 

تركيا: كان موقف تركيا خلال الأزمة السورية موقفاً عدائياً ضد النظام السوري، بل قامت بتدريب المنشقين عن الجيش العربي السوري على أراضيها، تحت إشراف المخابرات التركية، وأيضا زودت تركيا المعارضة بالأسلحة والمعدات العسكرية الأخرى.

 

وفي 2016/8/24 بدأت القوات التركية بالتدخل العسكري المباشر والمعلن في سوريا باستهداف كلٍّ من تنظيم الدولة، والقوات المتحالفة مع الأكراد في سوريا، مع أن تركيا واجهت ادعاءات عديدة بشأن التعاون مع تنظيم الدولة، ودعمه في وسائط الإعلام الدولية بتركيزهم على السياسي التركي بيرات البيرق. ورغم هذه الانتقادات الوطنية والدولية، إلا أن تركيا رفضت مقاتلة تنظيم الدولة بشكل مباشر.

 

وفي نيسان/أبريل 2018 نشرت مقالة في فورين بوليسي ذكر فيها أنه في عام 2013 وحده قام نحو 30,000 مسلح باجتياز الأراضي التركية، وإنشاء ما يسمى بالطريق الجهادي السريع حيث أصبحت البلاد قناة المقاتلين، الذين يسعون للانضمام إلى تنظيم الدولة، وعلاوة على ذلك تم علاج جرحى التنظيم مجانا في المشافي التركية الحدودية.

 

ومما سبق يتضح لنا أن الدور التركي كان لاستيعاب المعارضة، وإدخال التنظيمات المسلحة في متاهات بعد أن سيطرت على أغلبهم بالمال والسلاح، وتحكم المخابرات في تفاصيل تحركاتهم، ما أدى إلى انصياع أغلب التنظيمات إلى التعليمات التركية بشكل مسلّم به.

 

وهذا أعطى تركيا أولوية تصفية هذه التنظيمات بالقتال الداخلي بينها، حتى أصبحت الآن تتكلم عن فصيل واحد أو اثنين على أحسن تقدير في إدلب، وطبعا لا ننسى أن تركيا لها مصالح في عدم تمدد الأكراد وحفاظا على حدودها خالية من أي تدخلات تمس بالداخل التركي، ومع اقتراب إنهاء الحل في سوريا نجد تركيا أوجدت ذريعة بتفجير إسطنبول في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2022 الذي أسفر عن مقتل ستة أشخاص و81 جريحاً، فقامت بالقصف الجوي على معسكرات ومخازن تنظيم قوات سوريا الديمقراطية ما أضعف جبهته بشكل كبير جدا، وهددت بالدخول العسكري إلى مناطقهم ما دفع قوات سوريا الديمقراطية إلى الارتماء في حضن النظام وتسليم مناطقهم له، وبهذا تكون تركيا ضمنت نوعا من الحفاظ على عدم تمدد قوات سوريا الديمقراطية عسكريا وعودة تلك المناطق إلى حضن النظام السوري.

 

ومع اقتراب موعد الانتخابات التركية في حزيران 2023 وما تمر به تركيا من وضع اقتصادي صعب نجد أن حزب العدالة والتنمية يحاول تحويل الملف السوري إلى ورقة رابحة له في الانتخابات، ولذلك تسعى تركيا للتوصل إلى تفاهمات مع النظام السوري، ما يفضي إلى عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.

 

أما أمريكا؛ المتحكم الوحيد بالملف السوري فإن الحل السياسي الذي تفرضه منذ البداية هو قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254 وهو الطرح الوحيد الموجود على طاولة الحل، ولكن هذا الحل لن يكون إلا بعد تعديل مراكز اللاعبين وتجميع القوى على الساحة السورية، فكلما اتجهنا نحو الحل السياسي فإن الواقع يفرض تغييرات أساسية منها المصالحة بين الفرقاء الدوليين (كما يزعمون). فلا يمكن إيجاد الحل السياسي قبل بعض التحركات، منها على سبيل المثال لا الحصر:

 

- إنهاء التنظيمات العسكرية بشكل نهائي، وهذا اليوم ممكن وبسهولة لما فعلته تركيا من تخفيض عدد التنظيمات والسيطرة على قرارهم بشكل كامل، ما يؤدي إلى سهولة كبيرة في توجه هذه الفصائل إلى الانخراط ضمن الجيش السوري الحر وإعطاء وعود بتحقيق مكاسب غير معلنة لهم، وهذا على الصعيد التركي والسوري على حد سواء.

 

فالنظام السوري سوف ينهي تنظيم قوات سوريا الديمقراطية، وتركيا ستنهي التنظيمات في المحرر.

 

- التقارب قبل الحل السياسي لأن هذا التقارب يكشف الطريق للحل وجس نبض الشارع والضغط عليه وإفهامه أن لا سند له إذا تخلى عن اللحاق بالركب التركي وأنه على أبواب مجاعة وإبادة إلا إذا التزم وسارع بالارتماء بأحضان تركيا، لضمان الأمان له.

 

وأيضا قد يصل الأمر إلى اقناع الحاضنة بأن رأس النظام قد يغير، وهذا قد يكون المقصد من تعنت رأس النظام، وضعف حماسه للتقارب، هو السبب بالإطاحة، ما يؤدي إلى ارتفاع أسهم النظام التركي بالنسبة للداخل، وأيضا يحصل على تنازلات كبيرة من الحاضنة والتنظيمات وما شاكلتها. وأيضا ترتفع أسهمه في الداخل التركي كقائد فذ.

 

- جعل المجتمع المدني يطرح حلا لما هي سوريا المستقبل بحيث يقرأ منها وضع الحاضنة وتقبلها، وعلى أساسه تتم معالجة الشوائب والعراقيل قبل بدء الحل السياسي، وما زالت ساحة الدم مفتوحة للتصفيات والضغط عليهم.

 

إن تمهيد الأرض لقبول الحل السياسي هي من أهم تحركات الولايات المتحدة اليوم عبر أدواتها التي لا تمانع أمريكا من تنفيذ بعض مصالحهم الإقليمية والوطنية بما لا يتعارض مع مخططها المرسوم، وبهذا فإن المصلحة الروسية في إنهاء وجودها في سوريا يدفعها نحو السير قدما نحو الحل الذي تنشره أمريكا وإن كان ذلك قد يتطلب منها بعض الأعمال العسكرية المشينة فوق ما اقترفته.

 

وأيضا تنفيذ المصالح التركية في إبعاد شبح الأكراد، وأيضا العمل على كسب أوراق أكثر ربحاً للانتخابات التركية، وأيضا هناك مصلحة أمريكية بإنهاء الملف السوري بعد أن تعاظم الملف العالمي، وقد تنشغل هي بكل قواها في مسائل أكبر من الملف السوري، ولذلك يجب إغلاق الثغرات وسحب السلاح، وتقنين أي إعلان للقانون السوري ضمن مرحلة انتقالية، مع الحفاظ على القبضة الأمنية التي تضمن سير الأمور في الداخل.

 

إننا اليوم بأمس الحاجة إلى تمسكنا بحبل الله المتين، فلا منقذ لنا سواه، وتمسكنا بثوابتنا وعدم التراجع عن أي ثابت من ثوابت الثورة. وإن كانت الأمم تكالبت علينا ومنذ اليوم الأول لثورتنا، وهم اليوم يحاربون الوقت لكسب المعركة، وهذا ما يجب علينا عدم تمكينهم منه، فإن الوقت لصالح الثورة؛ فالتقلبات الدولية القادمة شديدة عليهم، ولا قِبَلَ لهم بها من حيث الانهيار الاقتصادي، وضعف النسيج المجتمعي عندهم ما سوف يؤدي إلى اقتتال داخلي، ناهيك عن المشاكل الدولية التي قد تفضي لسبب ما إلى حرب أكبر مما نتصورها، وهذا كله سوف يؤدي إلى انشغال القوى الدولية.

 

فإن هذا الضغط قد يفضي إلى تراجع منهم ما قد يتيح لنا فرصة أكبر تسهم في ظهور المخلصين ونكون نحن نواة الحل لهذا العالم؛ لأن الحل يكمن في عودتنا إلى الساحة الدولية بدولة تمثلنا تحمل الخير للعالم، فتنقل العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن الظلم والقهر إلى عدل الإسلام ورحمته.

 

فهذا نداء للأحرار أهل القوة والمنعة وإلى الحاضنة الشعبية التي ضحت وما زالت تضحي وحفاظا على دماء الشهداء؛ نهيب بكم أن تغذوا السير مع العاملين لاستئناف الحياة الإسلامية، وعودة الخلافة الراشدة التي بشرنا بها رسولنا الكريم ﷺ «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ. ثُمَّ سَكَتَ».

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

نبيل عبد الكريم

 

آخر الإضافات