بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

حديث «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ» ضعيفُ السند

فيُرَدُّ روايةً ولا يصحُّ ردُّه درايةً

 

تنتشر منذ سنوات في وسائل التواصل وبعض المواقع الإلكترونية على ألسنة بعض العلماء والباحثين والدعاة إلى تغيير الحكام وإقامة الحكم بالإسلام، تعليقاتٌ على الحديث «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ»، تقول إنه ضعيف السند فلا يصح الاحتجاج به. وتذهب بعض هذه التعليقات إلى زيادةِ شرحٍ وتفصيلٍ في ذلك فتضيف أن متنَه يتعارض مع وقائع ثابتة، ما يوجب ردَّه درايةً أيضاً وليس روايةً فقط.

 

تتفق أقوال علماء الحديث قديماً وحديثاً على ضعف حديث «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ»، وعلى أنّ في رواته مجاهيل وانقطاعاً. إلا أنه لم يرد عن عالمٍ معتبر يُعتدُّ به أن هذا الحديث يُردُّ درايةً.

 

بل قد درج كثير من العلماء عند قولهم إن هذا الحديث ضعيف ولا يصح رفعه إلى النبي ﷺ أنْ يضيفوا أنّ معناه صحيح. لذلك، لن تتعرض هذه الكلمة لموضوع ضعف سند الحديث، فهو أمرٌ مفروغٌ منه. وكذلك لن تتعرض للجانب اللغوي أو النحوي في ألفاظ الحديث، ولكنها ستناقش القول برده درايةً أي بسبب متنه.

 

ولا بد من التأكيد بدايةً أن الحكم على أي حديث بالضعف والرد وبخاصةٍ على متن الحديث أي الدراية، لا يصح صدوره عن غير فقيهٍ واسع الأفق دقيق النظر، متمكنٍ من علوم الشريعة، ولو كان ممن يطلق عليه أنه شيخٌ أو عالم. وهو يحتاجُ إضافةً إلى العلم بأصول الفقه وعلوم الحديث، وبدلالات الجُمل واحتمالاتها، إلى عمقٍ وخبرة في فهم العلاقات والوقائع الإنسانية واختلافاتها ولو كانت يسيرة، وإلى فهم حالات انطباق أو عدم انطباق النصوص الشرعية عليها، وقبل كل ذلك إلى موضوعية بعيدةٍ عن الميل للمذهب أو الهوى ولو كان غير مقصود. فإذا لم تتوفر هذه الشروط لردِّ حديث فلا يُعْتَدُّ بالقول برده، وإذا كان البحث في رد الدراية فالأمر أدق وآكد.

 

وقد وضع الأئمة أصولاً للنظر والحكم على الحديث عند ظهور تعارض في الدلالة بينه وبين نصوص شرعية أخرى، أو بينه وبين الواقع الثابت. ومن ذلك أنه لا يجوز الردُّ إلا إذا كان لا يمكن رفع التعارض بينه وبين غيره مطلقاً، وحينذٍ يمكن أن يقال بالنسخ بدل الرد إذا كان الموضوع حكماً شرعياً وليس خبراً. أما إذا كان التعارض هو بين النص والواقع، فلا يرد هنا النسخ، لأن هذا تعارضُ أخبار، وليس تعارضَ أحكامٍ شرعية، والأخبار لا يدخلها النسخ. وذلك كالحديث الذي نحن بصدده، «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ»، فهو إخبار عن أنه كما يكون الناس يكون الذين يتولون أمورهم. فهو خبر يمكن مقارنته بالواقع والوقوف على موافقته أو مخالفته. فإذا كان الواقع بخلافه قطعاً، وفي كل الأحوال، ولا يوجد أي حالة ينطبق عليها الخبر أو تصلح مصداقاً له، فيجب حينئذٍ رد هذا الخبر، لأنه لا يمكن أن يكون قد صدر عن النبي ﷺ، لأنه لا يمكن أن يأتي خبرٌ من النبي بخلاف مخبره، ويسمى هذا الردُّ ردَّ دراية. وعند مقارنة هذا الحديث بالواقع نجد أنه لا يمكن رده درايةً، لأنه توجد حالات كثيرة ينطبق عليها أو يحصل فيها.

 

فهذا النص «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ» عام، وإذا كان لا ينطبق في أحوال كثيرة، كما في البلاد التي يبغض أهلُها حكامَهم ويلعنونهم ويبغض حكامُها أهلَها ويلعنونهم، فهو ينطبق في غيرها، كأحوال المسلمين في عصر الصحابة وبعده، وفي عصور وأوضاع أخرى حيث الصالحون يتولون الصالحين ويوَلُّونهم، وفي عصور وأحوال غيرها أيضاً حيث الضالون والظالمون يتولون أمثالهم ويولونهم. وهناك من العلماء من استدل لمعنى هذا النص بقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [سورة الأنعام: 128].

 

ولا يصح الاعتراض بأن هذا النص عام وعدم انطباقه في بعض الأحوال ينقض عمومه وبالتالي ينقضه؛ لأن النص الشرعي قد يأتي عاماً ويُراد به الخصوص، وهذا كثير في الشرع، فلا يتأتى الاعتراض على صحة هذا النص من جهة الدراية، بل إن مثل هذا الاعتراض خطأ وله تداعياته الخطرة التي يجب التحذير منها.

 

إنَّ من أهم ما تضمنته مباحث أصول الفقه التي تعرضت لكيفية الاستنباط وقواعده هو أقسامَ القرآن والسنة، وهي خمسة لا بد من معرفتها لأجل الاستنباط من القرآن والسنة، ولا تغني عنها علوم اللغة وفهم دلالات الألفاظ، ولا يمكن الاجتهاد والاستنباط بدون معرفتها، أو بالغفلة عنها وعدم إعمالها. وأوسع هذه الخمسة هو: قسم العموم والخصوص الذي غفل عنه الذين قالوا برد حديث «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ» درايةً. وقد قال الشيخ تقي الدين النبهاني بشأن هذه الأقسام الخمسة: "إن معرفة اللغة العربية ومعرفة أقسامها لا تكفي للاستدلال بالكتاب والسنة على الأحكام الشرعية، لأن ألفاظَ الكتاب والسنة نصوصٌ تشريعية، وفيها طلب الفعل وطلب الترك، وفيها النص العام والنص الخاص، وفيها النص المطلق والنص المقيد، وفيها الكلام المجمل الذي يحتاج إلى بيان، وفيها البيان والمبيّن، وفيها ما نسخ حكمه وما لم ينسخ، وهذا كله لا بد من معرفته للاستدلال بالكتاب والسنة على الحكم الشرعي، لأن معرفة اللغة ومعرفة أقسامها دون معرفة هذه الأقسام من الكتاب والسنة لا تكفي للاستدلال على الحكم، ولذلك لا بد من معرفة أقسام الكتاب والسنة إلى جانب معرفة اللغة العربية ومعرفة أقسامها. وقد تبين بعد الاستقراء للكتاب والسنة أن أقسام الكتاب والسنة تنحصر في خمسة أقسام: الأول: الأوامر والنواهي، والثاني: العموم والخصوص، والثالث: المطلق والمقيد، والرابع: المجمل والمبين، والخامس: الناسخ والمنسوخ".

 

والشاهد في هذا النص هو أن القول برد الحديث المذكور دراية هو تجنٍّ على أصول الاستنباط الشرعي، وفيه إغفال تام لموضوع العموم والخصوص في النصوص. ولا ينبغي لمن هذا مبلغ علمه أو فهمه أن يتصدى للاستنباط، ومنه الحكم على الأحاديث بالقبول أو الرد، وبخاصة موضوع المتن والدراية.

 

وللإضاءة أكثر على هذا الأمر، أشير إلى أن الإمام الشافعي مثلاً، لمس الغفلة عن هذا الأمر عند بعض أهل العلم في عصره، وربما كان هذا أهم سبب لما ضمنه في كتاب الرسالة الذي تعرض فيه لبيان أقسام القرآن والسنة، وبخاصة العموم والخصوص. وقد استشهد في ذلك بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [سورة آل عمران: 173]، وقال فيها ما مفاده إن لفظ الناس الأولى عامة وعمومها يستغرق كل الناس لغةً، ولفظ الناس الثانية مثلها من حيث العموم. ولكن المراد بالناس الأولى هم ناس غير الناس الذين أريدوا بالثانية. ويضاف إلى ذلك أن الذين خوطبوا هم جمع ثالث من الناس، وكذلك هناك أناسٌ لا يعلمون شيئاً عن هذا الأمر، فهم جمع رابع. ولذلك شرح الشافعي هذا الأمر وقال إن لفظ الناس في الآية جاء في الموضعين عاماً ويراد به ما هو خاص. ومع أن الدلالة اللغوية للكلمتين واحدة، فقد أريد بكل منهما خاصٌ غير الخاصِّ الذي أريد بالأخرى. ولذلك، لا يصح القول برد الحديث الذي نحن بصدده ردّ دراية. ولو صح روايةً لوجب القول إنه عامٌّ أريد به خصوص.

 

ومثل هذا كثير في نصوص الشرع؛ منه مثلاً قوله تعالى: ﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [سورة الزمر: 62]، فهذا نص عام، ولكنه عام مخصص، لأنه ليس خالق نفسه.

 

وقد قال عن نفسه سبحانه وتعالى إنه شيء، وذلك في قوله سبحانه: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ [سورة الأنعام: 20]. وكما أنه لا يعترض أحد على هذا التخصيص أو الاستثناء، فكذلك لا يصح الاعتراض على الحديث المذكور. ومثله أيضاً قوله تعالى: ﴿رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ [سورة الأحقاف: 24، 25]، فالنص عام والمراد به خاص. ومثله قوله تعالى عن سقر: ﴿لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ﴾ [سورة المدثر: 28].

 

إن مثل هذه الأخطاء موجودة في تاريخ المسلمين وتتكرر، وينبغي التصدي لها، لأنها إذا كثرت تؤدي إلى انتشار الجهل وضعف فهم الشرع، ونشأة الفرق والشرذمة. والتصدي المجدي لها إنما يكون أول ظهورها، ويكون بالإلزام بمصادر الشرع وأدلته وَفقَ ضوابط النظر والاستنباط الشرعي وأصوله.

 

إلا أن ثمة أمراً ينبغي التنبيه إليه قبل ختام هذه الكلمة، وهو وجوب التصدي أيضاً لعلماء السلاطين الذين يستخدمون هذا الحديث لتضليل الناس وصرفهم عن العمل لتغيير الحكام الظلمة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، وعن العمل لإقامة الدولة الإسلامية. فينبغي بيان حقيقة حكام بلاد المسلمين والتحريض على إسقاطهم، وبيان حقيقة علماء السلاطين محرفي الأحكام ومضللي الناس، والدعوة إلى نبذهم، وبيان أن حديث «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ»، ضعيفٌ روايةً ولا يصح الاستدلال به على أمر شرعي.

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

محمود عبد الهادي